في جوف الحوت: تجارب فلسطينيّة في الجامعات الإسرائيليّة | فصل

«في جوف الحوت: تجارب فلسطينيّة في الجامعات الإسرائيليّة» (2022)

 

صدر عن «دار ليلى للنشر والترجمة»، وبالشراكة مع «معهد فان لير» في القدس، كتاب «في جوف الحوت: تجارب فلسطينيّة في الجامعات الإسرائيليّة» (2022)، الّذي انبثق عن نقاشات وعمل مجموعة «الدفيئة النقديّة للمهارات البحثيّة»، المكوّنة من طلّاب فلسطينيّين في مرحلة الدراسات العليا في الجامعات الإسرائيليّة، والّتي التقت خلال العامين الماضيين في «معهد فان لير» وتعمّقت في التجارب الفلسطينيّة في الدراسة والبحث والإنتاج المعرفيّ.

وقد حرّر الكتاب، الّذي جاء في 227 صفحة من القطع المتوسّط، كلّ من د. يارا سعدي-إبراهيم والبروفيسور خالد جمال فوراني. كما جاء في الكتاب حوارات معمّقة مع كلّ من رائف زريق، نادرة شلهوب-كيفوركيان، أندري مزّاوي، نهلة عبدو، وخولة أبو بكر. أمّا في قسم الشهادات، فقد جاءت شهادات كلّ من سماح عبّاس، وعبد السلام عبد الغني، تغريد جهشان، لبابة صبري، أمير نصّار، وأمير مرشي. كذلك ضمّ القسم الثالث من الكتاب مقالات وفصولًا مترجمة لباحثين من حول العالم، وقد شارك في الكتاب كلّ من سماح عبّاس، لُبابة صبري، أمير مرشي، أمير نصّار، جمال أبو حنّا، أضواء ذياب، خالد عويضة، آلاء حاجّ يحيى، وشهاب إدريس. كما كَتَبَ خاتمة الكتاب نديم روحانا.

تنشر فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة جزءًا من ترجمة منى أبو بكر لورقة ليندا تيهاوا سميث، بالتعاون مع الناشر.

 


 

 البحث والشعوب الأصلانيّة

من وجهة نظر الشعوب الخاضعة للاستعمار، أي من وجهة النظر الّتي ارتأيت أن تكون منطلقًا لكلماتي والّتي آثرتها على غيرها، يرتبط مصطلح ’البحث‘ ارتباطًا وثيقًا بالإمبرياليّة والاستعمار الأوروبّيّين. ولعلّ كلمة ’بحث‘ واحدة من أقذر الكلمات المستخدمة في قواميس الشعوب الأصلانيّة ومفرداتها، حيث تبعث تلك الكلمة، حين يتردّد صداها في الكثير من سياقاتهم، تبعث على الصمت، وتستحضر الذكريات السيّئة، وتثير ابتسامة مرتابة وشكّاكة.

هذه الكلمة قويّة إلى درجة أنّ الشعوب الأصلانيّة تكتب شعرًا حول البحوث. لا تزال الوسائل، الّتي يتورّط من خلالها البحث العلميّ في أشنع انتهاكات الاستعمار، حاضرة في التاريخ الحاضر في أذهان العديد من الشعوب الأصلانيّة حول العالم. إنّه تاريخ يسيء إلى إحساسنا العميق بإنسانيّتنا. مجرّد معرفة أنّ أحدهم قاس ’ملَكاتنا‘ بملء جماجم أسلافنا بحبوب نبات الدخن، ثمّ مقارنة كمّيّة الحبوب تلك بالقدرة على التفكير العقلانيّ، يسيء إلى أبعد حدّ لإحساسنا بمَنْ نحن أو ماذا نحن[1].

لعلّ كلمة ’بحث‘ واحدة من أقذر الكلمات المستخدمة في قواميس الشعوب الأصلانيّة ومفرداتها، حيث تبعث تلك الكلمة (...) على الصمت...

ما قد يثير حفيظتنا أيضًا هو أنّ باحثي الغرب ومثقّفيه يفترضون معرفتهم الكاملة بنا، استنادًا فقط إلى لقاءاتهم القصيرة والعابرة مع بعضٍ منّا. إنّه لَمِنَ المفزع لنا أن يرغب الغرب ويدّعي ملكيّته لأنماط معرفتنا وتخيّلاتنا، والأشياء الّتي نخلقها وننتجها، ثمّ يتنكّر في الوقت ذاته لِمَنِ ابتدع تلك الأفكار وطوّرها، بل على العكس، يسعى جاهدًا إلى حرمانهم من المزيد من الفرص ليكونوا مبدعين داخل أوطانهم ومجتمعاتهم. وكم هو مُغْضِب لنا معرفة أنّ الممارسات المرتبطة بالقرن الماضي، أو حتّى بالقرون الّتي سبقته، لا تزال تُوَظَّف للتنكّر لشرعيّة مطالب الشعوب الأصلانيّة بوجودها وأراضيها وأقاليمها، وبحقّها في تقرير مصيرها، وببقاء لغاتها ومظاهر معرفتها الثقافيّة، وبمواردها الطبيعيّة، وبأنماط حياتها داخل بيئاتها.

 

خطاب الغرب حول الآخر

ممّا ساهم في تخليد الذاكرة الجماعيّة حول الإمبرياليّة، الوسائل الّتي جُمِعَت من خلالها المعارف حول الشعوب الأصلانيّة، وصُنِّفَت ثمّ عُرِضَت من جديد بطرق عدّة في الغرب، ثمّ بعد ذلك من خلال عيون شعوب الغرب، وصولًا إلى الشعوب المستعمَرة. ينظر إدوارد سعيد إلى هذه العمليّة على أنّها "خطاب الغرب حول الآخر"، وهو خطاب تدعمه "مؤسّسات اللغة ومفرداتها، والمعارف، والأيقونات، والتعاليم المذهبيّة، وحتّى البيروقراطيّات والأنماط الاستعماريّة"[2].

يُرْجِع سعيد نجاح هذه العمليّة، جزئيًّا، إلى التقاطع المستمرّ بين البناء الأكاديميّ والتخيّليّ للأفكار حول الشرق. ويشير سعيد إلى أنّ بناء الأفكار الأكاديميّ مدعوم من قِبَل مؤسّسة شاملة "تُدْلي بشهادات حول (الشرق)، وتُبيح وجهات نظر معيّنة حوله، وتصفه من خلال التدريس عنه، وضبطه، والهيمنة عليه"[3]. بذلك تتداخل كلٌّ من المساعي الأكاديميّة لنيل المعرفة والبنيويّات غير الرسميّة والتخيّليّة والقصصيّة حول ’الآخر‘ مع بعضها بعضًا، ومع عمليّة البحث.

يتناول هذا الكتاب البحث باعتباره حيّزًا مهمًّا للصراع بين مصالح ’الغرب‘ وأنماط معرفته، وبين مصالح ’الآخر‘ وأساليب مقاومته. في هذه الحالة، يُسكَب ’الآخر‘ بقالب له اسم ووجه وهويّة خاصّة به، ألا وهو الشعوب الأصلانيّة. وفي حين أنّه من المعتاد - باستثناء البحوث النسويّة - الكتابة عن البحث في حقل معرفيّ محدّد، إلّا أنّه من الصعب بالتأكيد تناول منهجيّة البحث والشعوب الأصلانيّة معًا في نفس الوقت دون تحليل الإمبرياليّة، ودون استيعاب الطرق المعقّدة، الّتي يكون فيها السعي وراء المعرفة متجذّرًا في عمق الطبقات المتعدّدة للممارسات الإمبرياليّة والاستعماريّة.

 

وجهة النظر الأكاديميّة

قد يرى العديد من الباحثين والأكاديميّين والعاملين في المشاريع أنّ مشاريعهم البحثيّة العينيّة هي منفعة لـ ’البشريّة‘ جمعاء، أو أنّها تخدم هدفًا تحرّريًّا محدّدًا لمجتمع مضطهد. غير أنّ الإيمان بمَثَل أسمى، مفاده أنّ خدمة البشريّة هي حقًّا مُخْرَج أساسيّ للبحث العلميّ، ما هو إلّا انعكاس للأيديولوجيا بقدر ما هو انعكاس للتدريب الأكاديميّ كذلك. لذلك؛ فقد أصبح بديهيًّا أن يفترض بعض الباحثين ضمنًا، وبكلّ بساطة، أنّهم، أفرادًا، تجسيد حيّ لذلك المثل الأسمى، وأن ينظروا إلى أنفسهم على أنّهم تمثيل له عند عملهم مع مجتمعات أخرى.

من وجهة نظر بعض الشعوب الأصلانيّة، فقد كان جمع العلماء للمعلومات والبيانات عشوائيًّا ومرتجلًا ومسيئًا، تمامًا كما يجمعها الهواة...

في جعبة الشعوب الأصلانيّة حول العالم حكايات أخرى تقصّها، لا تشكّك فقط في ماهيّة تلك المُثُل المزعومة، بل تسرد قصصًا بديلة عنها: قصص تاريخ البحوث الغربيّة في عيون الشعوب المستعمَرة. هذه القصص المضادّة هي أشكال أخرى من المقاومة، تُكَرَّر وتُشارَك لدى العديد من الشعوب الأصلانيّة حول العالم. بالطبع، لا تميّز غالبيّة الشعوب الأصلانيّة ومجتمعاتها بين البحث العلميّ ’الجدير والمضبوط‘ من الأشكال غير الاحترافيّة لجمع البيانات، أو النهُج الصحافيّة، أو صناعة الأفلام، وغيرها من طرائق ’اكتساب‘ المعارف الأصلانيّة، الّتي تشكّلت كيفما اتُّفِق على مرّ العصور. وكما أشار الفيلسوف الفرنسيّ ميشيل فوكو، فقد ساهم تأثير قصص الرحّالة في إدراك الغرب لنفسه، كما ساهم الجمع المنظّم للبيانات العلميّة.

من وجهة نظر بعض الشعوب الأصلانيّة، فقد كان جمع العلماء للمعلومات والبيانات عشوائيًّا ومرتجلًا ومسيئًا، تمامًا كما يجمعها الهواة. وانطلاقًا من وجهات النظر تلك، ليس ثمّة فرق يُذْكَر بين البحوث العلميّة أو ’الحقيقيّة‘ وبين أيّة زيارات يقوم بها غرباء فضوليّون.

 

وجهة النظر الأصلانيّة 

يقرّ هذا الكتاب بأهمّيّة وجهات نظر الشعوب الأصلانيّة حول البحوث والمساعي الرامية إلى تفسير كيف ولماذا تطوّرت مثل تلك الآراء. كُتِب هذا الكتاب على يد إنسانة نشأت وترعرعت داخل هذه المجتمعات الأصلانيّة، حيث تتداخل القصص حول البحوث وحول الباحثين مع تلك الّتي تتناول كلّ الأشكال الأخرى للظلم والاستعمار. لقد حملت تلك القصص رسالات تحذيريّة، حيث لم تُضاهِ أهمّيّة المعنى السطحيّ للقصّة التفسيرات الضمنيّة للبروتوكولات الثقافيّة المشوّهة، والقيم المرفوضة، والاختبارات الصغيرة الّتي أثبتت فشلها، وكذلك الأشخاص البارزون الّذين تُجوهلوا وتُنُكِّر لهم.

أمّا الخطر الأكبر فقد تمثّل في السياسات الّتي أجازتها البحوث، وتغلغلت في جميع مناحي حياتنا، والّتي اسْتُلْهِمت غالبًا من الفكر والأيديولوجيا. لم تكمن قوّة البحوث في الزيارات الّتي أجراها الباحثون إلى مجتمعاتنا، ولا حتّى في عملهم الميدانيّ وأسئلتهم الوقحة الّتي كانوا يطرحونها في كثير من الأحيان. في الحقيقة، ما زال العديد من الباحثين من غير الشعوب الأصلانيّة محبوبين لدى سكّان الشعوب الأصلانيّة الّتي عاشوا بينها.

من ناحية منطقيّة، تُنُووِلت البحوث من حيث عدم جدواها بالنسبة إلينا، أي إلى الشعوب الأصلانيّة، ومن حيث فائدتها الكبيرة لِمَنْ أجاد توظيفها أداة؛ فقد نقلت لنا تلك البحوث أمورًا كنّا على دراية بها، واقترحت أشياء لم تُجْدِ لنا نفعًا، وأوجدت وظائف لأشخاص ليسوا في حاجة إليها. وفي كثير من الأحيان، كان يتردّد على مسمعي تعليق، صدر عن الكثير من الشعوب الأصلانيّة، مفاده "أنّنا أكثر الشعوب خضوعًا للبحث في العالم". في الواقع، لا أهمّيّة لحقيقة ذلك الكلام؛ فما يجب أخذه على محمل الجدّ من هذا التعبير هو الشعور بالأهمّيّة أو الاستخفاف بالبحث.

كان ينبغي لذلك الاستخفاف أن يردع أيّ شخص أصلانيّ يقدّر ذاته عن الارتباط بالبحوث. ومن الواضح في هذه الحالة أنّ ذلك لم يحدث، وهذا ما دفعني إلى الكتابة عن الشعوب الأصلانيّة والبحوث. يسعى هذا الكتاب إلى القيام بأكثر من مجرّد تفكيك للمعرفة الغربيّة، وذلك، ببساطة، من خلال إعادة سرد قصص الرعب الخاصّة بنا حول البحوث أو نشرها.

 

تفكيك القصّة 

في إطار تحرّريّ، يُعَدّ التفكيك جزءًا من مقصد أكبر؛ فتفكيك القصّة، والكشف عن النصوص الخفيّة الّتي من ورائها، وإبراز ما هو بديهيّ بالنسبة إلينا، لا يساعد الناس على تحسين ظروفهم الحاليّة، بل يقدّم الكلمات، أو ربّما نظرة ثاقبة؛ لشرح تجارب معيّنة – لكنّها لا تنقذ الناس من الهلاك. وانطلاقًا من هذا الإدراك بالواقع، كُتِب الجزء الثاني من الكتاب. وفي الوقت الّذي يتخوّف فيه بعض مجتمعات الشعوب الأصلانيّة من فقدان المزيد من المعارف الفكريّة والثقافيّة، ما أدّى إلى سعيها لاكتساب الاهتمام الدوليّ والحماية، من خلال العهود المتعلّقة بهذا الشأن، ما زال غيرها من مجتمعات الشعوب الأصلانيّة يعيش في ظروف سياسيّة واجتماعيّة تؤدّي إلى استدامة مستويات الفقر المدقع، وإلى اعتلال مزمن للصحّة، وإلى فرص تعليم سيّئة[4].

 المقاومة هي إعادة حفر الخنادق داخل الهوامش، وهي استعادة لِما كنّا عليه وإعادة تشكيل لذواتنا. الماضي، وحكاياتنا المحلّيّة والعالميّة، والحاضر...

في ظلّ هذه الظروف، قد يجري إبعاد أطفالهم عنهم قسرًا، أو قد يكون ’تبنّيهم‘ أو وضعهم في مؤسّسات خاصّة. أمّا البالغون فقد يدمنون الكحول مثلما يدمن أطفالهم شمّ الغِراء، وقد يخوضون علاقات سامّة تتشكّل في ظلّ ظروف مادّيّة صعبة تتكوّن بسبب أنظمة سياسيّة قمعيّة، في حين يتشرّبون أفكارًا حول عدم جدواهم، وكسلهم، واتّكاليّتهم، وافتقارهم إلى صفات بشريّة ’عليا‘. ينطبق هذا على مجتمعات الشعوب الأصلانيّة في دول العالم الأوّل، تمامًا كما ينطبق على مجتمعات الشعوب الأصلانيّة في الدول النامية.

ضمن هذا الواقع الاجتماعيّ، قد تبدو مسائل الإمبرياليّة وتداعيات الاستعمار مجرّد قضيّة أكاديميّة لا غير، فلا شيء يضاهي في أهمّيّته البقاء الفعليّ. تكمن المشكلة في أنّ الجهود الحثيثة والمتواصلة الّتي تبذلها الحكومات والدول والمجتمعات والمؤسّسات، لإنكار العوامل التاريخيّة الّتي أدّت إلى تشكّل هذه الظروف قد أدّت - في الوقت ذاته - إلى التنكّر لمطالباتنا بإنسانيّتنا وتاريخنا وشعورنا بالأمل؛ فالرضوخ والإذعان هما ضياع لذواتنا، وهما اعتراف ضمنيّ بكلّ ما يُقال عنّا.

 المقاومة هي إعادة حفر الخنادق داخل الهوامش، وهي استعادة لِما كنّا عليه وإعادة تشكيل لذواتنا. الماضي، وحكاياتنا المحلّيّة والعالميّة، والحاضر، والمجتمعات والثقافات واللغات والممارسات المجتمعيّة، كلّها فضاءات للتهميش، ولكنّها قد تكون أيضًا فضاءات للمقاومة والأمل.

 


إحالات

[1] Thompson, A. S. (1859), The Story of New Zealand. Past and Present – Savage and Civilized, John Murray, London.

يكتب ثومبسون: "نتجت هذه المقارنة لصغر حجم الدماغ من خلال التوقّف عن ممارسة القدرات العليا للدماغ؛ لأنّه مع تقلّص حجم العضلات بسبب عدم الحاجة إلى الاستخدام، يصبح من البديهيّ أن تقلّل أجيال من الخمول الذهنيّ من حجم العقول"، Vol. 1, p. 81.

[2] Edward Said. Orientalism, (Vintage Books, London, 1978), p. 2.

[3] Ibid. p. 3.

[4] للحصول على ملخّص لكلّ المواضيع؛ انظر:

Burger, J. (1987), Report from the Frontier. The State of the World's Indigenous Peoples, Zed Books, London.

 


 

ليندا تيهاو سميث

 

 

 

 

أكاديميّة وباحثة نيوزيلنديّة، عَمِلَتْ أستاذة للدراسات الأصلانيّة في «جامعة وايكاتو» في هاملتون، نيوزلندا.